نلج عالم القرية بكل تفصيلاته ، من خلال قصة حب اسطورية ، قصة حب تقف سامقة بين قصص تراثنا العربي الثري الخصب ، قيس وليلى ، كثير وعزة ، عنتر وعبلة .. الخ .
وهنا في هذه القصة / الرواية ، نقدم المؤنث على المذكر ، ونقول ( صالحة ومسعود ) ، صالحة هي الراوية / العاشقة ، هي البطلة من خلالها يتم طرح الحدوتة ، هي الناسجة للعمل الروائي ، هي التي تبث أحلامها ، وترسم لنا صورة حية نابضة عن هذا الحب الأسطورة .
لقد استطاعت" جمالات عبد اللطيف " باسلوبها المتميز ، ولغتها الشاعرية ، وقدرتها الفائقة على الحكي ، وتصوير الواقع في قالب روائي جذاب يمزج الواقع بالمتخيل ، لتخرج لنا بهذه الصورة قصة حب رائعة ، تقترب من الأسطورة في نسجها وحوادثها وصمود العاشقة بنت القرية ، هذه القصة المؤثرة التي تدور أحداثها في قرية صغيرة في جنوب مصر ، قرية متدثرة بعادات وتقاليد مقيدة ورابطة على القلوب .
من خلال بحث البطلة عن محبوبها - الذي هرب من القرية واقسم ألا يعود إلا ومعه السلاح ليأخذ بثأر والده الذي قتل غدراً - وتداعياتها لهذا الحب الذي نما وترعرع قبل أن يطرح الجسد ثماره ، وولد قبل أن يبلغ عمريهما سن الرشد .
جسدت لنا القاصة قصة هذا الحب / الأسطورة ، بلغة شاعرية مؤثرة ، سامقة ، وراقية .
تدلف بنا الى العادات والتقاليد ، فالأب تزوج رغم عن أنفه ويمارس نفس الدور السلطوي على كل الأبناء الذكور قبل الأناث ويرغهم على الزواج ممن يختارهم هو لا هم .
والأم المغلوبة على أمرها لاتملك إلا الفرجة ، والجدة المريضة تولول وتعدد كالحكيمة المتابعة فقط .
استطاعت الكاتبة من خلالها طرحها المؤثر ، ان تجعلنا نتعاطف مع (( صالحة )) العنيدة، المدافعة عن حبها رغم كل مافعلوه بها من حبس انفرادي ، صورته الكاتبة بصورة ابرزت القهر التي عانت منه البطلة .
وأمام إصرارها تطلق من زوجها / ابن عمها ، وتجلس في دارها ، وحيدة ، لايهمها أي شئ أكثر من البحث عن حبيبها ، والحياة على ذكراه .
لقد وفقت الكاتبة في ابراز الحالة النفسية للبطلة خلال وحدتها ، وصراعها المرير مع العادات والتقاليد ( القيود ) ورغم كل ماتعانيه البطلة من قهر إلا أنها دائما تبرز لنا صامدة ومنتصرة وسامقة بعنادها وإصرارها على التحدي .
وقد اتكأت الرواية على الموروث الشعبي واستطاعت الاستفادة منه من خلال الجدة ، فهي الزاد والمعين لـ (صالحة) منها تعلمت فن الحكي .
وبجانب قصة الحب الأصل ، تبرز قصة حب أخرى ، هي هذه العلاقة الجميلة التي جسدتها الكاتبة بحرفية ووعي بين أسرتها واسرة (العم شنودة ) وابرزت هذه العلاقة وتشابكها بين العائلتين بصورة رائعة وصادقة .
يتبلور نسيج الرواية من خلال رسالة ، ترسلها صالحة / البطلة .. إلى فتاها/ حبيبها / ساكن روحها وعقلها ، ترسلها له / لنا ، تبثه / تبثنا .. وجعها ، تحكي روايتها ، تعبر عن التمازج بينها وبين ( مسعود ) فتاها فتقول في مقدمة الرسالة / الرواية : (( ولما شدت فيروز برائعتها " ردني إلى بلادي " تذكرتك .. أنا التي لا أنساك طرفة عين .. وبكيت .. بكيت نفسي يامسعود وبكيتك . . بكيت كثيراً صدقني وشعرت بدموعك أنت تجري على خدي أنا )) .
من خلال رسالتها إلى محبوبها ، تنقل لنا مشاعر أنثى ، وتصور كل العالم الذي يحيط بها .. العادات والتقاليد ، تعبر عن ذاتها ، مشاعرها ، وهج طفولتها ، صباها ، بلوغها ، زواجها ، طلاقها ، قهرها ، وجعها ، تلملم كل ما يحيط بها ، وتجسده لنا عبر رسالتها ، بأسلوب تتمازج فيه كل هذه الأشياء ، وتنصهر مع كيانها العاشق ، فيمتزج التاريخ الإجتماعي بالسياسي بفنية .
وتبدأ بواكير الحب تتجلى .. تقدمها لنا الراوية بأفعال وتصرفات تعطي هذا الحب جمالاً .. وخصوصية ..
نجدها تسرق بيضة وتدسها في الكانون .. لتعطيها لمسعود ، تضعها في النار خلسة ، تعبر عن هذه اللحظة ، لحظة الترقب .. خوفا من أمها التي قد تداهمها في أي لحظة ، أو انفجار البيضة في (( الكانون )) ، ثم تضع البيضة في صدرها ، ولاتكتفي بذلك .. فقبل أن تذهب بها إلى مسعود لتقدمها له ، تذكرنا أنها دست البيضة في صدرها لهدف آخر يختص بأنوثتها فقد قالت لها جدتها
( أن الأشياء الساخنة تجعل ثدي البنت يفور بسرعة )) ، ولذلك تصرح لنا صالحة : (( كنت يوم الخبيز دائما تجدني أمام الفرن أنتظر خروج أول " بتاوتين" أو " رغيفين " آخذهما وأجري إلى المندرة الرطبة ذات الكوة الواحدة ، والضوء الفقير ، أضعهما ساخنتين فائرتين في صدري ، وأتحمل آلامهما بصبر جميل ، لكي ينضج بسرعة ثدي وأتزوج حبيبي )) .
وحين أخذت الأغنام وهمت بالخروج .. حذرتها أمها في السير في الزراعات .. حتى لاتقتل فبعد خروج السجين العائد هناك من يتربص به لقتله .. وتحاول أن تبث الرعب في قلب البنت ، ولكن البنت العاشقة لاتعبأ بشيء ، تعبر عن لحظة خروجها : (( حين خرجت من البيت شعرت بأنفاسي ترتد إليّ ، كل قيود الخوف التي وضعوها حول قدميَّّ ، وعنقي ، انتزعتها وألقيت بهامن وراء ظهري ومضيت برشاقة بحرية .. بسلام .. اقصر طريق يوصلني إلى مسعود هو ذلك الطريق الذي تمر من أمامه العربات .. )) .
هذه صورة رائعة ترسمها الكاتبة بحنكة لمشاعر صالحة التي لاتفكر إلا في حبيبها .
ثم ترسم لنا صورة شاعرية رومانسية ، وهي تنتظر مسعود / فتاها : (( عصفور الشوق فرَّ هارباَ لما رأى مسعود يقبل ناحيتي ويسرع الخطى ليستقبلني )) .
وتبدأ مناوشات صغير ة بينهما عندما يقول لها أنه بنى لها كوخاً صغيراً لايسع غيرهما ،وهي كما تقول : (( أبالغ في حبك الطرحة فوق صدري الناتئ لكي يفهم أني لم ئاعد صغيرة بعد ) ) .
وتعرج بنا الحدوتة لتوضح لنا العلاقة الحميمة بين أسرتها وأسرة العم شنودة ، وترسم لنا صورة رائعة لهذه العلاقة الأسرية الجميلة التي تتشابك فيها المشاعر والأحساسي وتتعمق ، تجسد هذه المشاعر بحرفية وفنية : (( صعدتُ لأفترش السطح طيلة _ هذا الأسبوع _ تقوم فيه تريزة برش السطح بالماء ، وتملأ القلل ، بينما أقوم أنا بكنس السطح ، ثم أفترشه بعد ذلك بالخصر والاسجاد القديم _ غدا سينتهي الأسبوع ونتبادل المهام )) .
ثم نجدها تجلس وحيدة وتفكر في فتاها وترسم المشاعر هذه اللحظات : (( حبيبي لو كان بمقدورك أن تنتظر في قلبي ، كما يتثنى لك النظر في عيني لرأيت بعين رأسك أن مايكنه لك القلب من محبة لاتقوى أجنحة الكلمات على حمله إليك )) .
ثم ترسم لنا صورة لجدتها ، الحكاءة الرائعة ، منبع الحكمة ، والجميع حولها وهي تسرد حكاياتها فترسم لنا صورة رائعة لهذه اللحظة الساحرة : (( لها قدرة على أن تمنحك جناحي خيال ، يأخذانك إلى عالم حواديتها الغامض الساحر المثير .. معها تقصر الليالي وتروق الأمسيات )) .
ويقتل والد مسعود عن طريق الخطأ .. ويرحل بعدها مسعود ويقرر ألا يعود إلا بعد أن يشتري بندقية ليأخذ بالثأر .
وتعبر عن هذا الوجع : (( ومن يومها لم يعد مسعود .. منذ أن رحل لشراء بندقية .. أتراه يعلم الآن أنه يحتاج لألف ألف بندقية ؟ )) .
وتواصل طرح مشاعرها عبر رسالتها لهذا الغائب / الحاضر : (( بعميري اشتري لقاءك إلا خمس دقائق منه ، أستبقيها لأملي عيني من وجهك وأمر بيدي على راسك ، أسمع صوتك أرى أي التعديلات أجراها الزمن على صورتك ، وأضع آخر أنفاسي بين يديك ... هل أنت بخير ؟ انا لست بخير ولن أكون مادمت عني بعيد )) .
ويحضر عمها الأكبر ليخطبها لولده ، فتصور هذه اللحظة تصويراً رائعا ، يعبر عن هذه المشاعر العاشقة لفتاها ، فتصور الأهل وهم جالسون في هذه الحظة : (( بعد رحيلك بأيام وفي أمسية أكثر شئوما من أمسية رحيلك ، أجتمع فيها كل أفراد عائلتي بينما ملائكة الخير والعدل والرحمة ، هجرت أرضنا ، سماؤنا ، ذهبت إلى ارض أخرى وسماء أخرى )) .
وتواصل رسم هذا الوجع ، تناجي محبوبها
( ياحسرتي يامسعود .. ويا .... قلة حيلتي إلى منأشكو مصيبتي ؟ ما أضيق هذا الكون ، جباله زحفت حتى أطبقت بعضها على بعض ، وسماؤهه هبطت وضغطت على أرضه ، ولم يعد فيه متنفس ، طيور الحزن الجارحة الشرسة ، حين رأت قلبي يسقط مخضبا بجراحه هجمت عليه وراحت تحدث فيه ثقوبا لتعشش فيه إلى الأبد )) .
قبلت قدمي الأم ، لتقذها ، ولكن ماذا تفعل الأم وهي مقهورة مثلها ، لا رأي لها ، فلا تجد أمامها إلا اللجوء للشمس ، رمز الوضوح والصراحة ، تلجأ إليها لتأخذها بعيدا ، فترسم لنا صورة رائعة ومعبرة : (( في الصباح قلت لعين الشمس : خذيني ياعين الشمس ، لكنها لم تفعل )) .
وعندما رفضت ابن عمها ، المفروض عليها وجدت حصارا من الجميع ، قالوا لوالجدها أنه أخفق في تربيتها ، وتركها تخرج من الدار حتى سن الرابعة عشرة ، وصرح أحدهم أنها تعشق ، عاشقة للولد مسعود حجازي .
ويقررون الذهاب بها إلى دجال القرية المجاورة ، وتعبر عن هذه المفارقة ، هذا الوضع المجبر ة عليه وتتساءل : (( أبمقدور هذا الشيخ أن ينتزعك من رأسي ، من كبدي ، من قلبي . أبمقدورهم جميعاً أن ينتزعوك مني ؟ يصعب يصعب يصعب انتزاعك فأنت ملء العين والرأس والقلب والعروق ، وصورتك وان احتجبت موزعة على أهداب عيني ومسام جلدي وبويصلات شعري .. ممتلئة بك أنا حتى التضخم حتى الثقل .. )) .
وهي في طريقها لقرية الشيخ ليفك سحرها _ هكذا أراد نساء الدار ، تتجاهل كل مايدور حولها ،ولا تتذكر إلا فتاها مسعود ، تتراكم التداعيات وتعبر في لحظة استرجاع تمزجها والحدث الرئيس بفنية ، فتنقل لنا صورة رائعة تتمزج فيها قدرة الكاتبة على التخيل وخلق الأسطورة / القصة : (( ركبنا المعدية ، وراح المراكبي يضرب بمجدافيه أمواج النيل الهادئة ، والنصف قمر يتأرجح على سطح الماء ، ناح المراكبي بصوته الشجي المؤثر البالغ الحزن:
وكم ياقلبي تحمل وكاااام تشيل
أنت مدينة ياقلبي ولاعيون النيل
وكام تشيل ياقلبي وكام تحمل
أنت مدينة ياقلبي ولاعيون البحر ؟
هذا التوظيف الجيد للموروث الشعبي تسخدمه الكاتبة لطرح الحالة ، ولاحظ أنها قالت ناح المراكبي ، فهذه الكلمة لها مدلولها ، ورمزها عند الكاتبة .
وتحاول ان تتخلص من هذا الوجع وتلقي نفسها في النيل ولكنها محاصرة : (( أغمضت عيني وقلت : ايها النيل سأمنحك جسدي بلا أدني تحفظ ، ولما هممت بالنهوض تشبثت بي أيدي أمي وعماتي ) ) .
كل شيء يقابلها كريه ، القرية التي يقطنها الشيخ ، بيته برائحته النتة ، أفعاليه القدزة معها ، تعبر عن هذه اللحظة : (( آ آه يامسعود .. يده القذرة الخشنة مسحت كل جسدي زرعت فيه مليون شجرة عار مريرة )) .
وترسم صورة أخرى لهذا الشيخ : (( مسعود هذا الوطواط .. أمتص بفمه المجنون رحيق كل زهور الخير والجمال التي روتها يديك الخيرة ..... )) .
ولم يجدوا خلاص غير حبسها في غرفة في الدار ، تحديد اقامتها . .استطاعت الكاتبة التعبير عن دواخل البطلة ورسم صورة لحالتها النفسية وربط هذه المعاناة بمعاناة فتاها : (( يخيل إليَّ أني سجنت منذ ألف ، ثلاثة آلاف عام .. أمثلي أنت تفقد الاحساس بالزمن ؟ نعم أنت مثلي متضخم بالألم ،مثلي وحيد مذبوح تنزف من داخلك لاتجد يداً حانية تطيب جراحاتك .... ) .
في هذا السجن المفروض عليها ، يطاردها في ظلام الليل شبح هذا الشيخ اللعين الذي عبث بجسدها ، تصور لنا هذا المشهد المفعم بالأسى : (( حين يهجم المساء ويبرك على المكان ، تأخذ حرارة جسمي في الارتفاع الجنوني ، وتستحيل البراغيث إلى قطط وحشية ، والناموس إلى وطاويط ، والفئران إلى ذئاب .. ولا أنام ، ومن الكوات الصغيرة تقفز إلى غرفتي شياطين الجن ولا أنام يتنازعونني ، يفصلون قدمي عن ساقي ، وذراعين كتفي ....))
وتتزوج رغم عنها ، على حد تعبير الكاتبة (( باعني المأذون بعشرينن جنيه وكيلة بلح ، وقبل أن يوقع أحد الموجدين نيانة عني ، وباعني طبيب الوحدة الصحية بأوزة محمرة في السمن البلدي وقَبل أن يعطيهم شهادة ميلاد مزورة تحمل عمر هو ليس عمري .
وسط هذا الوجع ، يحدث نصر أكتوبر ، تطرحه القاصة بين طيات الأحداث بفنية ، يشارك أحد اخوتها في صنع الحدث ، وهي تودعه وهو ذاهب الىوحدته العسكرية ، فنجد الجدة تتعلق بعنقه وهي تودعه وتنشد :
طلع الولد قبل النهار ما يتولد
رايح يجيب الشمس قبل ماتتولد
يغسل ندى فجره توب البلد
يمسح غبار الهم ويزهر عمامة البلد
فاستطاعت بفنية أن تمهد لهذا النصر وتصهره في الحدث دون أن يكون دخيلا ومفتعلا ، وفي نفس الوقت تدخلنا إلى " تريزة “ التي تستعد للإنتقال الى مدينة السكندرية مع عريسها ، فنجدها تنقل لنا صورتها وهي على سطح الدار تتدرب على الحذاء العالي المدبب .. علامة للإنتقال من القرية الى المدينة .. هذه التغيرات والتطورات وهي كما هي لم تتغير .. تزوجت من ابن عمها وعاشت معه أتعس أيام حياتها .. (( وجدتني يامسعود في غرفة صفراء بلون الموت خانقة مخيفة كالقبر )) . (( وجدتني يامسعود مقتولة بين يديه وسموم أظافره تسري أما ومرارة في جسمي الصغير ، في دمي ..... مليون عار حملوني بها حتى الآن .. مسعود لاتحزن لا تبتأس ، فما أخذوه مني كرهاً واغتصابا بمقدور أحقر الحيوانات أن يأخذه من أنثاه )) .
وبعد ...... تحصل على طلاقها منه ، لاتعرف متى تخلصت من هذا الرجل التي لم تشعر بأنها زوجته يوما ما .. وتعبر عن مابعد هذه المرحلة ، ترسم لنا صورة مدهشة ، تعبر عن قدرة الكاتبة الفائقة في بلورة الصورة بطريقة فنية : (( لم أشعر بفرحة الخلاص .. المرار المضطرم بأعماقي طفح على رأسي قتل كل خلايا البهجة في عقلي ، أطفأ تألق الأحلام في عيني ، خرجت من هذا القبر المتعفن ومضيت على جمر ، على رماد جثتي .. )).
ماتراه جديد ، حدثت تطورات .. البيت جديد واسمنتي (( البيت الأسمنتي مغلق المسام لايسمح لعطر الذكريات أن تتسرب إليّ ليأخذني بدوره بعيدا عن هذا الجفاء والجفاف العاطفي الذي أحياه )) .في هذا البيت تشعر انها لن ترى حبيبها فكل شيء فيه حياه تركوه في البيت القديم : البط والحمام والأوز والبهائم ، حتى القمر لايدخل هذا البيت (( هذا السقف الخرساني الأصم لايسمح للقمر أن يزورني ولا العصافير أن تبني فيه عش صغير )) .
كل شيءتغير ، التلفزيون الذي دخل البيت السمنتي ، غير كل شيء ، الأعلانات والأفلام الأجنبية وصراع الأولاد على الممثل الهندي والممثل الصيني ، هذا المسخ الذي ترمز له الكاتبة ، وهذا الغزو استطاعت أن توظفه في سياق الحدوتة / الرواية ، وان تدمجه في الحدث دون أن نشعر بغربته عن الحدوتة الأصل . لتطرح لنا غربتها الداخلية ، والتغيير الخارجي وما أحدثه من فجوة بين الماضي والحاضر ، ففتعلق بالبيت القديم وتنتهز الفرص لتخرج من حبسها لتذهب إلى هناك بحجة وضضع طعام الطيور ، لتعيد ذكرياتها وتشتم رائحة الماضي بكل مايحمله لها من ذكريات مع فتاها ، وتشعر وهي في هذه الأماكن أنها ستقابل مسعود .
تنظر حولها كل شيء تغير ، تغيرت ملامح كل شيء ، الماضي لايبقى منه إلا الفتات ، ولكنها عنها أم الخلاص من هذه الغربة التي تحياها ، فتقول لفتاها
( وإذا فشلنا في إصلاح ما افسدوه ، فسوف نرحل أنا وأنت إلى أرض بكر )) .
ان رواية ( ياعزيز عيني ) للقاصة والحكاءة ( جمالات عبد اللطيف ) رواية متميزة من حيث السرد والبناء والفكرة . وتبشر بميلاد روائية وحكاءة بجوار تمكنها من فن القص التي تميزت فيه وأعطت فيه الكثير ، وتعتبر ( جمالات عبد اللطيف ) اول عنصر نسائي يكتب القصة القصيرة في سوهاج ومازال يعطي حتى الآن ، ولها اسلوبها المتميز وقدرتها على طرح القضايا الإنسانية .
الشخصيات
بجوار صالحة / البطلة ، نجد شخصيات متجوارة بعضها له فاعلية .. وبعضه ثانوي .. يبرز ويؤدي غرض ما في الرواية .. وقد إبتعدت الرواية تماما عن الشخصيات المحشورة .. والزائدة عن الحاجة .. ومن شخصيات الرواية شخصية (( الجدة )) .. والتي أشرنا إليها من قبل .. وتمثل الماضي بكل عبقه .. وتضيف إليها الكاتبة بعض الرتوش المتقنة لإضفاء الرمز عليها ، فهي الحكاءة التي يلتف حولها الصغار تمتعهم بحكايتها ، وهي الحكيمة التي تتكء على الموروث الشعبي من أشعار ومتداولة وعدودة لتعبر عن مشاعرها ومشاعر المحيطين بها .. وأحيانا تبدع وتؤلف شعراً .
ونجد أيضا عائلة العم شنودة .. وابنته تريزة وباقي أفراد الأسرة .. وتركز على العم شنودة والأبنة تريزة .. وتبرز شخصيتهما .. والعلاقة الحميمة بين العائلتين ، عائلتها وعائلة العم شنودة .. ترسم هاتين الشخصتين ببساطة وعمق وبدون تكلف ولانشعر إنهما خارج سياق العمل / الحدوتة .
نجد شخصية الأخ الذي يجند ويذهب قبل حرب 73 .. ويعاصر الحرب .. والنصر .. نجد شخصية الأخ مقهورة مثلها تماما .. يجبر على الزواج من أبنة عمه .. ويقتل حبه في كيانه دون القدرة على البوح به .
أما شخصية (( ألأب )) فهي متسلطة ، قاهرة ، نمطية كشخصية (( عبد الجواد )) بطل ثلاثية نجيب محفوظ الشهيرة .. في المقابل نجد شخصية الأم المقهورة مثل باقي أفراد الأسرة وهي شخصية نمطية أيضا ، تقابل شخصية (( أمينة )) زوجة (( عبد الجواد )) .
مرجعية تاريخية
لقد استطاعت الكاتبة أن تضفي على العمل الروائي المطروح مرجعية تاريخية .. دون الخوض في تفاصيل .. طارحة بشكل فني وبرؤية موجزة / عميقة تداعيات قبل إنتصار أكتوبر .. مستفيدة من الموروث الشعبي .. وطارحة هذا الإنتصار .. وما أعقبه من حقبة تاريخية ..( عصر الإنفتاح ) وتأثير هذا على القرية المصرية .. طارحة هذا التغيير الكلي .. بما تراه من تغيير في مقابلات طرحتها بوعي ودراية بتوظيف الرمز .. فواجهت الماضي /بالحاضر ، الطين / بالأسمنت .. سلوك الأولاد .. وصراعم على مثلهم الأعلى الأجنبي .. غياب الجدة في مقابل التلفزيون الحكاء البديل .. غربتها وسط هذا الكيان الأسمنتي الذي غير كل شيء فيشعرها بالغربة .. وغياب المشاعر .. غياب الماضي بكل جماله ، غياب حبيبها .
ولاشك أن الرواية طرحت لنا قصة حب جميلة ورائعة ، من خلال رسالة طويلة ، متشابكة البناء ، استطاعت من خلالها أن تطرح لنا مشاعر أنثى تجاه مشاعرها الإنسانية ، واستطاعت لنا أن تصور لنا عالم جميل ، وأن تطرح لنا التطورات التي حدثت للقرية وما أحدثته من خلل .. وكان طرح الكاتبة وسردها بطريقة فنية تستخدم فيها الصورة المكثفة الموحية ، والسرد الغير مباشر والمحكم ، استفادت فيه من كل تقنيات الرواية الحديثة .. وعبرت فيه بصدق وعذوبه عن مشاعر الأنثى العاشقة المجروحة ، وتظل رواية ( ياعزير عيني )) رواية / وأسطورة العشق الجميل .
موقع الدراسات والبحوث في شبكة